**قصة الرهط التسعة من قوم ثمود الذين تحدّوا الله وفسدوا في الأرض**
قصة قوم ثمود هي واحدة من القصص القرآنية التي تحمل عِبراً عظيمة وتحذيراً من عواقب الطغيان والإفساد في الأرض بعد تلقي الهداية من الله. كان قوم ثمود من نسل نبي الله نوح عليه السلام، وقد أرسل الله إليهم نبيّه صالح عليه السلام يدعوهم لعبادة الله وحده وترك عبادة الأوثان. كانت ثمود تعيش في منطقة تُعرف ب"الحِجر"، وهي تقع في شمال شبه الجزيرة العربية، ويُعرف هذا الموقع الآن بمدائن صالح، وهي موقع أثري تاريخي يحتوي على بقايا حضارة عظيمة تتمثل في القصور والمقابر المنحوتة في الجبال. كانت هذه المنطقة شاهدة على قوة قوم ثمود وقدرتهم الفائقة على النحت، حيث حفروا بيوتهم وقصورهم في الصخور الصلبة، مما يدل على تقدمهم في فن العمارة والبناء.
لقد كان قوم ثمود قوماً مميزين بالقوة والقدرة على النحت في الجبال، وقد أنعم الله عليهم بالرخاء والثروة والقدرة على الاستفادة من الموارد الطبيعية المتوفرة لديهم. كانوا يعيشون حياة مرفهة ويعتمدون على الزراعة والتجارة، وكان لديهم نظام اجتماعي متماسك يعتمد على التعاون والعمل الجماعي. لقد أعطاهم الله هذه النعم العظيمة ليختبرهم في كيفية استخدامها، وذكرهم الله في القرآن بقوله:
> **"وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ"** (الفجر: 9)
وقد دعاهم نبي الله صالح إلى توحيد الله ونبذ عبادة الأصنام، وأقام لهم الحجة بآيات واضحة تثبت صدق رسالته، مثل معجزة الناقة التي كانت دليلاً لا يقبل الشك. ومع ذلك، قابلوا دعوته بالتكذيب والاستكبار، واتهموه بالسحر والجنون، وقالوا عنه إنه يسعى لتغيير دين آبائهم وأجدادهم. وقد أصروا على كفرهم وطغيانهم، بل إنهم لجأوا إلى تهديد صالح والمؤمنين معه، واستهزأوا به مراراً وتكراراً، قائلين إنهم لا يرون أي فائدة في دعوته.
**الدعوة والمعجزة الكبرى: الناقة**
أظهر الله لنبيّه صالح عليه السلام معجزة الناقة كدليل على صدق نبوته، وكانت الناقة معجزة عظيمة، إذ خرجت من صخرةٍ أمام أعينهم، وهو الأمر الذي لا يمكن تفسيره إلا بقدرة الله عز وجل. كانت هذه الناقة كبيرة الحجم، لها صفات مميزة جعلتها مختلفة عن أي حيوان آخر، وكانت تشرب كميات كبيرة من الماء، مما جعلها تشكل اختباراً حقيقياً لقوم ثمود. وقد أمرهم صالح بأن يعطوا الناقة حقها في الشرب وألا يمسوها بسوء، وأن يتركوها تأكل في أرض الله بحرية دون أن يعيقوها. كان من شروط هذا الاختبار أن يخصصوا لها يوماً كاملاً للشرب من البئر، بينما يشربون هم في اليوم التالي. قال تعالى:
> **"هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ"** (هود: 64)
كانت الناقة تشرب يوماً من البئر ويشرب قوم ثمود في اليوم الآخر، وكان لهم أن يشربوا من لبنها في يوم شربها، فهي كانت كافية لهم جميعاً. وكانت الناقة تُظهر طاعة تامة لأمر الله، إذ لم تكن تتعدى على حقوقهم في الشرب، ومع ذلك كان وجودها يمثل اختباراً لصبرهم وإيمانهم. لكن رغم هذه المعجزة العظيمة، لم يتوقف قوم ثمود عن طغيانهم وتكذيبهم، بل كانوا يضيقون ذرعاً بها، وكانوا يرون فيها تهديداً لنمط حياتهم المريح، إذ كان يجب عليهم الالتزام بتخصيص يوم للناقة، وهذا ما أثار سخطهم وغضبهم.
**الرهط التسعة ومؤامرتهم**
في قوم ثمود، كان هناك تسعة رجال يُعرفون بالرهط، وهم كانوا الأكثر فساداً وإجراماً، وكانوا يقودون القوم نحو العصيان والطغيان. هؤلاء الرجال كانوا يتمتعون بنفوذ كبير بين قومهم، وكانوا يبثّون الفساد ويشجعون على ارتكاب المعاصي دون أي اعتبار لعاقبة أفعالهم. كانوا يسكنون القصور ويتنعمون بالثروات، وقد استخدموا مكانتهم لإخافة الناس وإرهابهم، حتى إن بعض أفراد قوم ثمود كانوا يخشون معارضتهم أو الوقوف ضدهم. كانوا معروفين بقوتهم وشجاعتهم، ولكنهم استخدموا هذه الصفات في الشر بدلاً من الخير. لم يعجبهم دعوة صالح ولا المعجزة، فكانوا يرون فيها تهديداً لمكانتهم وسلطتهم، وبدأوا بالتخطيط لقتل الناقة في تحدٍ مباشر لأمر الله، وكانوا يظنون أن بقتلهم للناقة سيستعيدون سيطرتهم التامة على الأمور ويُنهون دعوة صالح. لم يكن تخطيطهم لقتل الناقة وليد اللحظة، بل اجتمعوا سرًا وتآمروا فيما بينهم، واتفقوا على تنفيذ جريمتهم بليل ليضمنوا عدم تدخل أحد لإيقافهم أو كشف أمرهم. قال تعالى:
> **"وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ"** (النمل: 48)
هؤلاء الرهط لم يكتفوا بالإفساد في الأرض فقط، بل تآمروا أيضاً على قتل نبي الله صالح بعد أن يقتلوا الناقة، ليتمكنوا من إخماد دعوته. اجتمعوا على مؤامرة خبيثة، وقرروا تنفيذ جريمتهم ليلاً حتى لا يتمكن أحد من رؤيتهم، وكانوا يظنون أن خططهم ستمر دون عقاب. لكن الله كان يعلم بما يخططون، وحذّرهم نبي الله صالح من عاقبة ما يقومون به، قائلاً لهم إن الله لن يترك هذه الجريمة تمر دون جزاء، وإن العذاب قادم لا محالة إن لم يتوبوا ويرجعوا عن غيهم.
**قتل الناقة والعقوبة المنتظرة**
في نهاية الأمر، تمكن الرهط التسعة من تنفيذ جريمتهم بقتل الناقة بعد أن اتفقوا على اختيار أكثرهم جرأة لتنفيذ الفعل، وقد كانوا يجتمعون سرًا لتدبير تفاصيل الجريمة، وكانوا يعلمون أن ما يقدمون عليه هو تحدٍ خطير لأوامر الله، لكنهم استمروا في غيّهم غير مبالين بالعواقب. كان كل واحد منهم يحمّس الآخر ويدفعه نحو تنفيذ الجريمة، حتى قاموا بقتل الناقة في ليلة مظلمة بعيداً عن أعين الناس. لم يكن هذا الأمر مجرد تحدٍ لصالح عليه السلام، بل كان تحدياً لله ولأوامره وتعديًا على آية أرسلها الله ليختبر بها إيمانهم وصبرهم. وبعد قتلهم للناقة، ازدادوا جرأة وغروراً، وبدأوا يسخرون من صالح ويتحدونه بشكل علني، مدّعين أن ما وعدهم به من عذاب لن يحدث. قال الله تعالى:
> **"فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ"** (الأعراف: 77)
بعد قتلهم للناقة، أنذرهم صالح بأن العذاب سيأتيهم خلال ثلاثة أيام، وأن هذا كان مهلة لهم ليتوبوا ويعودوا إلى رشدهم، وقد وضح لهم صالح أن هذه المهلة هي فرصة للرجوع إلى الله والاعتراف بخطئهم قبل فوات الأوان. لكنهم بدلاً من أن يفكروا في التوبة والاستغفار، تعاملوا مع هذا الإنذار بتجاهل تام وازدادوا طغياناً وتكبروا. كانوا يسخرون من صالح ويستهزئون بحديثه عن العذاب، ويتناقلون فيما بينهم كلامه بتهكم. بل إنهم أخذوا يخططون لاحتفالاتهم ولإظهار تحديهم بشكل علني، وجعلوا من الأيام الثلاثة مناسبة لإظهار قوتهم المزعومة وكبريائهم الزائف، وكأنهم يريدون إثبات أن ما قاله صالح لن يحدث. بدأوا يستعدون لهذه الأيام الثلاثة بطريقة تظهر تحديهم الواضح لأمر الله، بل وقالوا متحدّين:
> **"ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ"** (الأعراف: 77)
**عذاب الله وإهلاك القوم**
بعد أن انتهت المهلة التي أعطاها لهم نبي الله صالح، جاء أمر الله وأرسل جبريل عليه السلام ليعذبهم. كان العذاب شديداً ومروعاً، فقد أُرسلت عليهم صيحة جبريل التي كانت قوية لدرجة أنها هزّت الأرض من تحتهم، وصدعت الجبال وتشققت الصخور، وأصابتهم بالرعب والذهول. كانت الصيحة تحمل قوة لا تُقاوم، ولم يتمكنوا من الهروب أو النجاة، فكانت الصيحة كفيلة بإهلاكهم جميعاً في لحظة واحدة. أصبحوا جثثاً هامدة متناثرة في بيوتهم دون حراك، وتحولت قصورهم التي كانوا يفتخرون بها إلى خراب، وأصبحت الصخور التي كانوا ينحتونها بمهارة شاهدة على دمارهم. لقد أصبحت ديارهم خالية بعد أن كانت مليئة بالحياة والنشاط، وصارت الأماكن التي كانت تضج بالفرح والرفاهية مرتعاً للخراب والصمت الموحش. أصبح المكان مهجوراً، ولم يبقَ سوى أثر يدل على قوتهم التي لم تنفعهم أمام قدرة الله، وأصبحت أثراً بعد عين، وتحوّلوا إلى عبرة لمن يأتي بعدهم من الأمم والشعوب. قال تعالى:
> **"فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ"** (الأعراف: 78)
> **"وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ"** (هود: 67)
لقد دُمّرت بيوتهم تماماً، وأصبحت أثراً بعد عين، وكأن لم يسكنها أحد من قبل. تحولت القصور التي نحتوها في الجبال والمساكن الفخمة إلى خراب موحش، وصارت ديارهم خالية من أي حياة، لا يُسمع فيها إلا صوت الصمت والخراب. أصبحت تلك البيوت التي كانوا يتفاخرون بها عبرة لمن يأتي بعدهم، ليعرفوا أن القوة والترف لا يعنيان شيئاً أمام قدرة الله وعذابه. قال الله تعالى:
> **"كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ"** (هود: 68)
**نجاة نبي الله صالح والمؤمنين**
أما نبي الله صالح والذين آمنوا معه، فقد نجوا من هذا العذاب، إذ أن الله أمره أن يخرج من القرية هو ومن آمن قبل وقوع العذاب. خرج صالح ومن معه في هدوء الليل، حاملين إيمانهم بالله وتوكّلهم عليه، وكانوا يعلمون أن العذاب قريب لا محالة. وتركهم صالح وهو يقول لهم كلمات الوداع والتحذير، مذكراً إياهم بأنهم قد تلقوا رسالة الله بكل وضوح، ولكنهم أصرّوا على كفرهم. قال لهم:
> **"فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ"** (الأعراف: 79)
**العبرة من القصة**
قصة قوم ثمود والرهط التسعة تحمل الكثير من الدروس والعبر للبشرية. أولاً، تُظهر هذه القصة كيف أن الطغيان والكفر بالآيات والبراهين يؤدي إلى الهلاك، حتى لو كان الإنسان في قمة قوته ورخائه. قوم ثمود كانوا يمتلكون حضارة عظيمة وقدرة على نحت البيوت في الجبال، ولكنهم نسوا أن القوة الحقيقية هي بيد الله وحده.
ثانياً، تُعلمنا القصة أن الله لا يترك عباده دون هداية، فقد أرسل إليهم نبيًا منهم ليُذكرهم ويهديهم، ولكن عندما أصرّوا على الكفر والعناد، جاءهم العذاب المستحق. قال الله تعالى:
> **"إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ"** (القمر: 27)
ثالثاً، تُبرز القصة أهمية الاستجابة لأوامر الله والابتعاد عن المعاصي، وأن المؤمنين هم الذين ينجون بعناية الله، بينما الطغاة والمفسدون يلقون عاقبة سوء أعمالهم.
وفي الختام، فإن قصة الرهط التسعة من
قوم ثمود هي تحذير لكل من يسلك طريق الفساد والطغيان، وتأكيد على أن الله يمهل ولا
يهمل، وأن العاقبة للمتقين والمستجيبين لأمر الله.