في قلب مملكةٍ مترامية الأطراف، حيثُ كانت الرياحُ أسرعَ من الخيل، وأصواتُ الطيرِ لغةً مفهومة، حكمَ نبيُّ الله سليمانُ بنُ داودَ بحكمةٍ وعدلٍ لم يعرفْ لها العالمُ مثيلاً. لم يكن مُلكُه مقتصراً على الإنسِ فحسب، بل سخَّرَ اللهُ له الجنَّ والطيرَ والريحَ، فكانت جيوشُه تضمُّ أصنافاً شتى من المخلوقاتِ، ولكلٍّ منها قدراتٌ فريدةٌ.
كان سليمانُ عليه السلام، رغم عظمةِ مُلكِه، تواقاً للمعرفةِ، متطلعاً إلى فهمِ خفايا الكونِ وأسرارِ الخلق. لطالما سمعَ همساتٍ عن أرضِ الجنِّ، ذلك العالمُ الموازي الذي يقطنه مخلوقاتٌ من نارٍ، لهم قدراتٌ خارقةٌ وطبائعُ مختلفة. كانت تلك الهمساتُ تثيرُ في قلبهِ مزيجاً من الفضولِ والمسؤولية، فَهوَ النبيُّ المرسلُ إلى العالمين، الإنسِ والجنِّ على حدٍّ سواء.
ذاتَ يومٍ، وبينما كان سليمانُ عليه السلام يتفقدُ جُنودَه من الجنِّ، وهم يقومون بأعمالٍ جليلةٍ في بناءِ المدنِ الشاهقةِ وتشكيلِ التحفِ البديعةِ، خطرَ لهُ أن يزورَ أرضَهم، لا ليَحكمَها أو يَستوليَ عليها، بل ليَتعرَّفَ على أحوالِهم عن كثبٍ، ويدعو مَنْ ضلَّ منهم إلى طريقِ الحقِّ.
استشارَ سليمانُ عليه السلام وزراءَه وحُكماءَه من الإنسِ والجنِّ، وأخبرَهم بعزمهِ على القيامِ بهذه الرحلةِ. تخوَّفَ بعضُهم من المجهولِ، ومن طبيعةِ الجنِّ المتقلبةِ، لكنَّ إصرارَ النبيِّ الحكيمِ كان أقوى. أمرَ سليمانُ عليه السلام الريحَ الصَّبا أن تكونَ مطيتهُ وجنودِه المختارينَ من الإنسِ والجنِّ، فانطلقتْ تحملُهم بسرعةٍ فائقةٍ، تخترقُ حُجبَ الغيومِ وتتجاوزُ حدودَ عالمِ الإنسِ.
كانت الرحلةُ مُبهرةً ومُخيفةً في آنٍ واحدٍ. رأى سليمانُ عليه السلام مناظرَ لم تَخطرْ على بالِ بشرٍ. تجاوزوا ودياناً ملتهبةً بنيرانٍ زرقاءَ لا تُحرق، وجبالاً من الكريستالِ اللامعِ تعكسُ ألوانَ الطيفِ بأشكالٍ بديعةٍ. مرُّوا بغاباتٍ من الأشجارِ الشَّبحيةِ، ذاتِ الأغصانِ المُلتويةِ التي تُصدرُ أصواتاً كأنها همساتٌ خفيَّةٌ. شاهدوا مخلوقاتٍ طائرةً ذاتَ أجنحةٍ شفافةٍ تلمعُ في الظلامِ، وأخرى أرضيةً ذاتَ أشكالٍ غريبةٍ، بعضُها يشبهُ الحيواناتِ البريةِ، وبعضُها الآخرُ لا يُشبهُ شيئاً معروفاً في عالمِ الإنسِ.
أخيراً، وصلوا إلى أرضِ الجنِّ الرئيسيةِ. كانت مدينةً عظيمةً مبنيةً من موادَّ غيرِ مألوفةٍ، بعضُها يبدو كأنه دخانٌ متماسكٌ، وبعضُها الآخرُ كأنه زجاجٌ مُلونٌ يتغيرُ باستمرارٍ. كانت الأبنيةُ شاهقةَ الارتفاعِ، ذاتَ تصاميمَ هندسيةٍ مُعقدةٍ تُظهرُ براعةً فائقةً في البناءِ. كانت الشوارعُ تعجُّ بالجنِّ من مختلفِ الأشكالِ والأحجامِ والطبائعِ. رأى سليمانُ عليه السلام جنًّا طويلاً ضخماً ذا قوةٍ هائلةٍ، وجنًّا صغيراً رشيقاً يتمتعُ بمهاراتٍ في التخفي والحركةِ السريعةِ. شاهدَ جنًّا ذوي قدراتٍ سحريةٍ يُشعلون النيرانَ بأيديهم ويُحرِّكون الأشياءَ عن بُعدٍ.
تجولَ سليمانُ عليه السلام في أرجاءِ المدينةِ، يُرافقهُ حراسُه من الجنِّ المُسلمينَ. لاحظَ الاختلافاتِ الكبيرةَ بين قبائلِ الجنِّ، فلكلِّ قبيلةٍ عاداتُها وتقاليدُها الخاصةُ. رأى قصوراً فخمةً لملوكِ الجنِّ وأمرائِهم، مُزينةً بالجواهرِ النادرةِ والأحجارِ الكريمةِ التي لم يرَ مثلَها قطُّ. شاهدَ أسواقاً صاخبةً يتبادلُ فيها الجنُّ البضائعَ والخدماتِ، وورشاً لصناعةِ الأدواتِ والأسلحةِ المصنوعةِ من موادَّ غيرِ معروفةٍ.
لكنَّ سليمانَ عليه السلام لم يقتصرْ اهتمامُه على مظاهرِ الحضارةِ والتقدمِ في أرضِ الجنِّ. كانَ يُراقبُ أيضاً سلوكَهم وعقائدهم. لاحظَ أنَّ كثيراً من الجنِّ يعبدون النارَ، التي هي أصلُ خلقتِهم، ويتخذونَها آلهةً من دونِ اللهِ. رأى بعضَهم الآخرَ يعبدونَ أصناماً صنعوها من موادَّ مختلفةٍ، ويتوسلونَ إليها لقضاءِ حاجاتِهم. شاهدَ أيضاً بعضَهم يمارسون السحرَ والشعوذةَ، ويُلحقونَ الأذى ببعضِهم البعضِ. استمعَ إلى حكاياتٍ عن الظلمِ والقسوةِ بين بعضِ قبائلِ الجنِّ، وعن الحروبِ والصراعاتِ الدائرةِ بينهم.
ازدادَ حزنُ سليمانَ عليه السلام لرؤيةِ هذا الضلالِ والانحرافِ عن طريقِ الحقِّ في أرضٍ من أراضي اللهِ. تذكرَ قولَ اللهِ تعالى: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". فأيقنَ أنَّ واجبَه كنبيٍّ يقتضي أن يدعوَ هؤلاءِ الجنَّ إلى عبادةِ اللهِ وحدهُ لا شريكَ لهُ، وأن يُخرجَهم من الظلماتِ إلى النورِ.
أمرَ سليمانُ عليه السلام جنودَه من الجنِّ المسلمينَ أن يُعلنوا في أرجاءِ المدينةِ عن اجتماعٍ عامٍّ، دعا إليه جميعَ زعماءِ الجنِّ وكبارَهم. تجمَّعَ الجنُّ بأعدادٍ هائلةٍ في ساحةٍ واسعةٍ، يحدقون بدهشةٍ إلى النبيِّ الإنسيِّ الذي جاءَ إلى عالمِهم. وقفَ سليمانُ عليه السلام في وسطِهم، يحيطُ بهِ جنودُه من الإنسِ والجنِّ، وتجلَّتْ عليه هيبةُ النبوةِ وعظمةُ المُلكِ.
بدأ سليمانُ عليه السلام حديثَه بصوتٍ جهوريٍّ ترددَ صداهُ في أرجاءِ الساحةِ: "يا معشرَ الجنِّ، إنِّي سليمانُ بنُ داودَ، نبيُّ اللهِ في أرضِ الإنسِ. وقد أرسلني اللهُ إليكم كما أرسلني إلى الإنسِ، لأدعوكم إلى عبادةِ اللهِ وحدهُ لا شريكَ لهُ. هو الذي خلقكم من نارٍ وخلقنا من طينٍ، وهو الذي يرزقكم ويُحييكم ويُميتكم. لا تعبدوا النارَ التي هي من خلقه، ولا الأصنامَ التي صنعتموها بأيديكم، فإنها لا تنفعُ ولا تضرُّ".
صمتَ سليمانُ عليه السلام قليلاً، ثمَّ استأنفَ حديثَه بصوتٍ أكثرَ ليناً: "لقد رأيتُ في أرضِكم عجائبَ وغرائبَ، ورأيتُ أيضاً ما أنتم عليه من اختلافٍ وتنازعٍ. إنَّ سببَ ذلك هو بعدُكم عن عبادةِ اللهِ الواحدِ القهارِ. إذا عبدتم اللهَ وحدهُ، اتحدتْ كلمتُكم، وزالَ خلافُكم، وعمَّ السلامُ بينكم".
تفاعلَ الجنُّ مع كلامِ سليمانَ عليه السلام بطرقٍ مختلفةٍ. بعضُهم نظرَ إليهِ باستغرابٍ ودهشةٍ، لم يعتدْ على سماعِ مثلِ هذا الكلامِ من قبلُ. بعضُهم الآخرُ نظرَ إليهِ بعينِ الريبةِ والشكِّ، متسائلينَ عن غرضِهِ من هذه الدعوةِ. تجرأَ أحدُ كبارِ الجنِّ وسألَ سليمانَ عليه السلام: "يا نبيَّ اللهِ، لقد عبدَ أجدادُنا النارَ والأرواحَ منذُ القدمِ، فكيفَ نتركُ ما ألفناهُ ونتبعُ دينًا جديدًا؟".
أجابَ سليمانُ عليه السلام بحكمةٍ: "إنَّ دينَ اللهِ ليسَ جديداً، بل هو الدينُ الذي أرسلَ اللهُ به جميعَ الأنبياءِ والرسلِ. أمَّا عبادةُ النارِ والأرواحِ فهي من فعلِ الشيطانِ، يُزينُ لكم الباطلَ ويُبعدُكم عن الحقِّ. إنَّ اللهَ هو المستحقُّ للعبادةِ وحدهُ، فهو الذي خلقَ النارَ والأرواحَ وكلَّ شيءٍ".
شرحَ سليمانُ عليه السلام للجنِّ أصولَ الإسلامِ، ودعاهم إلى الإيمانِ باللهِ وملائكتِهِ وكتبِهِ ورسلِهِ واليومِ الآخرِ. حدثَهم عن الجنةِ ونعيمِها للمؤمنينَ، وعن النارِ وعذابِها للكافرينَ. ذكَّرَهم بنعمِ اللهِ عليهم، وقدرتِهِ التي لا يُعجزُها شيءٌ.
أظهرَ سليمانُ عليه السلام للجنِّ بعضاً من معجزاتِهِ التي أيَّدَهُ اللهُ بها، فأمرَ الريحَ أن تهبَّ بقوةٍ فأذعنتْ لأمرِهِ، وأشارَ إلى صخرةٍ فتصدعتْ نصفينِ. أخبرَهم بأخبارٍ غيبيةٍ لم يكونوا يعلمونها، مما زادَ من إيمانِ بعضِهم.
تأثرَ كثيرٌ من الجنِّ بدعوةِ سليمانَ عليه السلام، واقتنعوا بحجتِهِ وبرهانِهِ. رأوا فيهِ نبياً صادقاً ورسولاً أميناً. أعلنَ عددٌ كبيرٌ منهم إسلامَهم، ودخلوا في دينِ اللهِ أفواجاً. فرحَ سليمانُ عليه السلام بإسلامِهم، واستقبلَهم أحسنَ استقبالٍ، وعلمَهم أمورَ دينِهم.
لكنَّ بعضَ الجنِّ الآخرينَ استكبروا وعاندوا، ورفضوا دعوةَ الحقِّ. كانوا متعلقينَ بعبادةِ آبائِهم وأجدادِهم، ويرون في دعوةِ سليمانَ عليه السلام تهديداً لسلطتِهم ونفوذِهم. حاولوا إثارةَ الفتنةِ بين الجنِّ المسلمينَ وغيرِ المسلمينَ، لكنَّ حكمةَ سليمانَ عليه السلام وعدلَه أحبطتْ مساعيهم.
لم يُجبرْ سليمانُ عليه السلام أحداً من الجنِّ على الإسلامِ، فالدينُ لا إكراهَ فيهِ. لكنه أوضحَ لهم عواقبَ الكفرِ والضلالِ، وبيَّنَ لهم فضلَ الإيمانِ والهدايةِ. أمرَ الجنَّ المسلمينَ بالتعاونِ مع إخوانِهم من الإنسِ على نشرِ الخيرِ والعدلِ، وحذرَهم من الظلمِ والفسادِ.
بعدَ أن قضى سليمانُ عليه السلام فترةً في أرضِ الجنِّ، دعاهم إلى الإسلامِ، وأرسى قواعدَ العدلِ بينهم، وعيَّنَ منهم ولاةً وقضاةً مسلمينَ، قررَ العودةَ إلى مملكتِه في أرضِ الإنسِ. رافقهُ عددٌ كبيرٌ من الجنِّ المسلمينَ، الذين أصبحوا جزءاً من جيشِهِ وعمَّالِهِ المخلصينَ.
حملتْ ريحُ الصَّبا سليمانَ عليه السلام وجنودَه عائدينَ إلى أرضِ الإنسِ، بعدَ أن رأى عجائبَ أرضِ الجنِّ وأسرارَها، ودعا أهلَها إلى عبادةِ اللهِ الواحدِ القهارِ. كانت رحلةً عظيمةً تركتْ أثراً عميقاً في نفوسِ الجنِّ والإنسِ على حدٍّ سواءٍ، وشهدتْ على عظمةِ مُلكِ سليمانَ عليه السلام ونبوتِه، وقدرتِه على التواصلِ مع مختلفِ عوالمِ الخلقِ، ودعوتِهم إلى الحقِّ والخيرِ. وعادتْ أرضُ الجنِّ، بفضلِ دعوةِ سليمانَ عليه السلام، تعرفُ نورَ التوحيدِ وتذوقُ طعمَ العدلِ، لتُصبحَ جزءاً من مملكةِ الحقِّ التي أسَّسَها نبيُّ اللهِ الحكيمُ.