بابُ ما وَرَدَ في خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: قِصَّةُ الخَلْقِ، التَّكْرِيمِ، والابتلاءِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أَشْرَفِ الأَنْبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
إِنَّ قِصَّةَ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَيْسَتْ مُجَرَّدَ حِكَايَةٍ عَنْ بِدَايَةِ الوُجُودِ الإِنْسَانِيِّ، بَلْ هِيَ سَفَرٌ عَظِيمٌ في رِحَابِ القُدْرَةِ الإِلٰهِيَّةِ، وحِكْمَةِ الخَالِقِ العَظِيمِ، وبَيَانٌ لِمَكَانَةِ الإِنْسَانِ في هَذَا الكَوْنِ الفَسِيحِ. إِنَّهَا قِصَّةٌ تَحْمِلُ في طَيَّاتِهَا دُرُوسًا وعِبَرًا لا تَنْتَهِي، تَتَجَلَّى فِيها عَظَمَةُ الخَالِقِ، وتَكْرِيمُ المَخْلُوقِ، وابْتِلاءُ النُّفُوسِ، ورَحْمَةُ الرَّبِّ الوَاسِعَةِ. لَقَدْ شَاءَتْ إِرَادَةُ اللهِ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِيَكُونَ خَلِيفَةً في الأَرْضِ، وأَبُو البَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ، وهَذَا الحَدَثُ الجَلَلُ قَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُهُ في آيَاتِ الذِّكْرِ الحَكِيمِ، وفي سُنَّةِ نَبِيِّنَا المُصْطَفَىٰ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، مِمَّا يَدُلُّ على أَهَمِّيَّتِهِ القُصْوَىٰ في فَهْمِنَا لِدِينِنَا وعَقِيدَتِنَا. فَلْنَسْتَعْرِضْ بِتَدَبُّرٍ وتَفَكُّرٍ تَفَاصِيلَ هَذِهِ القِصَّةِ العَظِيمَةِ، مُسْتَنِيرِينَ بِنُورِ القُرْآنِ الكَرِيمِ وسُنَّةِ النَّبِيِّ الأَمِينِ، ومَا أَوْرَدَهُ عُلَمَاءُ التَّفْسِيرِ والسِّيَرِ في كُتُبِهِمُ المُعْتَمَدَةِ، وعَلَى رَأْسِهَا "قِصَصُ الأَنْبِيَاءِ" لِلإِمَامِ الحَافِظِ ابْنِ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ، لِنَنْهَلَ مِنْ مَعِينِهَا الصَّافِي، ونَسْتَخْلِصَ مِنْهَا مَا يُقَوِّي إِيمَانَنَا ويَزِيدُ يَقِينَنَا بِاللهِ تَعَالَىٰ.
النُّصُوصُ القُرْآنِيَّةُ المُتَعَلِّقَةُ بِخَلْقِ آدَمَ: شَهَادَةُ الوَحْيِ الإِلٰهِيِّ
لَقَدْ جَاءَتْ آيَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ بَيِّنَاتٌ لِتُؤَكِّدَ حَقِيقَةَ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وتُفَصِّلَ بَعْضَ جَوَانِبِ هَذِهِ النَّشْأَةِ العَجِيبَةِ، وتَدُلَّ على عَظِيمِ قُدْرَةِ اللهِ وإِبْدَاعِهِ في خَلْقِهِ. مِنْ هَذِهِ الآيَاتِ المُحْكَمَاتِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَىٰ في سُورَةِ ص:
"إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" (ص: ٧١-٧٢).
في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ، يَتَجَلَّىٰ لَنَا إِخْبَارُ اللهِ تَعَالَىٰ لِلْمَلَائِكَةِ الكِرَامِ بِنِيَّتِهِ لِخَلْقِ بَشَرٍ مِنْ طِينٍ، وهَذَا الإِخْبَارُ يَدُلُّ على عَظَمَةِ هَذَا المَخْلُوقِ الَّذِي اسْتَحَقَّ أَنْ يُخْبَرَ بِهِ المَلَأُ الأَعْلَىٰ. ثُمَّ يَأْتِي التَّأْكِيدُ على مَرَاحِلِ الخَلْقِ، فَبَعْدَ التَّسْوِيَةِ وإِكْمَالِ الخَلْقِ الظَّاهِرِ، تَأْتِي النَّفْخَةُ مِنْ رُوحِ اللهِ، وهِيَ اللَّمْسَةُ الإِلٰهِيَّةُ الَّتِي تُمَيِّزُ هَذَا المَخْلُوقَ وتَجْعَلُهُ حَيًّا عَاقِلًا مُدْرِكًا. ويَتْبَعُ ذٰلِكَ الأَمْرُ الإِلٰهِيُّ لِلْمَلَائِكَةِ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، وهُوَ تَكْرِيمٌ وتَشْرِيفٌ لِهَذَا المَخْلُوقِ الجَدِيدِ.
وفي سُورَةِ المُؤْمِنُونَ، نَقْرَأُ تَفْصِيلًا آخَرَ لِمَرَاحِلِ الخَلْقِ الأُولَىٰ، حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَىٰ:
"وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ" (المؤمنون: ١٢-١٣).
هُنَا، يَتَّضِحُ لَنَا أَنَّ خَلْقَ الإِنْسَانِ مَرَّ بِمَرَاحِلَ، بَدَأَتْ بِسُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ تَطَوَّرَتْ إِلَىٰ نُطْفَةٍ تَسْتَقِرُّ في رَحِمِ الأُمِّ. وفي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَىٰ أَنَّ خَلْقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَ بِدَايَةَ سِلْسِلَةِ الخَلْقِ الإِنْسَانِيِّ الَّتِي تَتَوَالَدُ بِالتَّنَاسُلِ.
وفي مَوَاضِعَ أُخْرَىٰ مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ، تَتَكَرَّرُ الإِشَارَةُ إِلَىٰ خَلْقِ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ أَوْ طِينٍ، بِتَعْبِيرَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ، كُلُّهَا تَدُلُّ على الأَصْلِ المَادِّيِّ لِهَذَا المَخْلُوقِ، ولَكِنْ مَعَ التَّأْكِيدِ على النَّفْخَةِ الرُّوحِيَّةِ الَّتِي مَنَحَتْهُ الحَيَاةَ والعَقْلَ والإِدْرَاكَ.
أَوَّلُ مَرَاحِلِ الخَلْقِ: قَبْضَةٌ مِنَ الأَرْضِ وتَشْكِيلُ الطِّينِ
تَبْدَأُ قِصَّةُ الخَلْقِ بِتَوْجِيهِ الأَمْرِ الإِلٰهِيِّ إِلَىٰ مَلَكٍ مِنَ المَلَائِكَةِ، وقِيلَ إِنَّهُ إِسْرَافِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، لِيَأْخُذَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابِ الأَرْضِ. وهَذِهِ القَبْضَةُ لَمْ تَكُنْ مِنْ مَكَانٍ وَاحِدٍ، بَلْ مِنْ جَمِيعِ أَرْجَاءِ المَعْمُورَةِ، مِنْ سُهُولِهَا وجِبَالِهَا، مِنْ تُرْبَتِهَا البَيْضَاءِ والسَّوْدَاءِ والحَمْرَاءِ، ومِنْ مُخْتَلِفِ بِقَاعِهَا. وفي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَىٰ التَّنَوُّعِ العِرْقِيِّ واللَّوْنِيِّ لِلْبَشَرِيَّةِ، والاخْتِلافِ في طَبَائِعِهِمْ وأَخْلَاقِهِمْ.
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "إِنَّ اللهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأَرْضِ فَجَاءَ بَنُو آدَمَ على قَدْرِ الأَرْضِ: مِنْهُمُ الأَحْمَرُ، والأَبْيَضُ، والأَسْوَدُ، وبَيْنَ ذٰلِكَ، والخَبِيثُ والطَّيِّبُ". وهَذَا الأَثَرُ الجَلِيلُ يُوَضِّحُ الحِكْمَةَ الإِلٰهِيَّةَ في هَذَا التَّنَوُّعِ، وأَنَّ الاخْتِلافَ في الظَّاهِرِ والبَاطِنِ هُوَ سُنَّةٌ كَوْنِيَّةٌ وقَدَرٌ إِلٰهِيٌّ.
بَعْدَ جَمْعِ التُّرَابِ، مُزِجَ بِالمَاءِ لِيُصْبِحَ طِينًا لَزِجًا، كَمَا قَالَ تَعَالَىٰ: "إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ" (الصافات: ١١). ثُمَّ تُرِكَ هَذَا الطِّينُ فَتْرَةً مِنَ الزَّمَنِ حَتَّىٰ أَصْبَحَ طِينًا مُنْتِنًا، كَمَا في قَوْلِهِ تَعَالَىٰ: "وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ" (الحجر: ٢٦). والحَمَأُ المَسْنُونُ هُوَ الطِّينُ المُتَغَيِّرُ الرَّائِحَةِ والمَلْمَسِ. ثُمَّ تَحَوَّلَ هَذَا الطِّينُ إِلَىٰ صَلْصَالٍ كَالفَخَّارِ، وهُوَ الطِّينُ الجَافُّ الَّذِي إِذَا نَقَرْتَهُ سَمِعْتَ لَهُ صَوْتًا، كَمَا قَالَ تَعَالَىٰ: "خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ" (الرحمن: ١٤). وهَذِهِ المَرَاحِلُ المُتَتَابِعَةُ في تَكْوِينِ الطِّينِ تَدُلُّ على التَّدْبِيرِ الإِلٰهِيِّ الدَّقِيقِ في خَلْقِ هَذَا الكَائِنِ العَجِيبِ.
ويَذْكُرُ أَهْلُ العِلْمِ أَنَّ فَتْرَةَ بَقَاءِ الطِّينِ في كُلِّ مَرْحَلَةٍ كَانَتْ طَوِيلَةً، وأَنَّ اللهَ تَعَالَىٰ لَمْ يَخْلُقْ آدَمَ دَفْعَةً وَاحِدَةً، بَلْ مَرَّ خَلْقُهُ بِأَطْوَارٍ ومَرَاحِلَ، وهَذَا مِنْ عَظِيمِ قُدْرَةِ الخَالِقِ وحِكْمَتِهِ البَالِغَةِ.
تَصْوِيرُ آدَمَ ونَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ: لَحْظَةُ المِيلادِ الرُّوحِيِّ
بَعْدَ أَنِ اكْتَمَلَ تَكْوِينُ الطِّينِ وتَشْكِيلُهُ على صُورَةِ بَشَرٍ، خَلَقَهُ اللهُ بِيَدِهِ الكَرِيمَةِ، وهَذَا دَلِيلٌ على عَظِيمِ شَأْنِهِ ومَكَانَتِهِ. تُرِكَ جَسَدُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ مُسَجًّى فَتْرَةً مِنَ الزَّمَنِ قَبْلَ أَنْ تُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ. كَانَ جَسَدًا مُصَوَّرًا كَامِلَ الأَعْضَاءِ، ولَكِنَّهُ كَانَ جَمَادًا لَا حَيَاةَ فِيهِ. كَانَتِ المَلَائِكَةُ تَمُرُّ بِهِ وتَنْظُرُ إِلَيْهِ بِتَعَجُّبٍ واسْتِغْرَابٍ، تَرَىٰ هَذَا الشَّكْلَ البَدِيعَ المُجَوَّفَ، وتَتَسَاءَلُ عَنْ سِرِّ هَذَا المَخْلُوقِ الجَدِيدِ.
رَوَىٰ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "لَمَّا صَوَّرَ اللهُ آدَمَ في الجَنَّةِ تَرَكَهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ فَجَعَلَ إِبْلِيسُ يُطِيفُ بِهِ فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أَنَّهُ خُلِقَ لَا يَتَمَالَكُ". وهَذَا الحَدِيثُ يُبَيِّنُ أَنَّ إِبْلِيسَ كَانَ يَتَرَبَّصُ بِآدَمَ حَتَّىٰ قَبْلَ أَنْ تَدِبَّ فِيهِ الحَيَاةُ، لِعِلْمِهِ بِأَهَمِّيَّةِ هَذَا المَخْلُوقِ ومَكَانَتِهِ عِنْدَ اللهِ.
ثُمَّ جَاءَتِ اللَّحْظَةُ الحَاسِمَةُ، نَفَخَ اللهُ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وهِيَ نَفْخَةٌ كَرِيمَةٌ مِنْ عِنْدِهِ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ، سِرُّ الحَيَاةِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا هُوَ. قَالَ تَعَالَىٰ: "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" (ص: ٧٢). فَبَدَأَتِ الحَيَاةُ تَدِبُّ في جَسَدِ آدَمَ شَيْئًا فَشَيْئًا، وسَرَتِ الرُّوحُ في عُرُوقِهِ وأَوْصَالِهِ. أَوَّلُ مَا دَبَّتِ الرُّوحُ في رَأْسِهِ عَطَسَ، فَكَانَ هَذَا أَوَّلُ فِعْلٍ يَقُومُ بِهِ آدَمُ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ. أَلْهَمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ أَنْ يَحْمَدَهُ على هَذِهِ النِّعْمَةِ العَظِيمَةِ، فَقَالَتْ لَهُ المَلَائِكَةُ: "قُلِ الحَمْدُ لِلّٰهِ"، فَقَالَ: "الحَمْدُ لِلّٰهِ". فَقَالَ اللهُ: "يَرْحَمُكَ رَبُّكَ". وهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ أَوَّلَ كَلِمَةٍ نَطَقَ بِهَا آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ كَانَتْ حَمْدًا لِلّٰهِ وشُكْرًا لَهُ على نِعْمَةِ الإِيجَادِ.
وفي هَذِهِ اللَّحْظَةِ العَظِيمَةِ، أَصْبَحَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ كَائِنًا حَيًّا، عَاقِلًا، مُدْرِكًا، قَادِرًا على التَّفْكِيرِ والتَّعْبِيرِ. لَقَدْ كَانَ مِيلادًا عَظِيمًا لِبِدَايَةِ البَشَرِيَّةِ.
تَعْلِيمُ آدَمَ الأَسْمَاءَ: تَكْرِيمٌ بِالعِلْمِ والمَعْرِفَةِ
بَعْدَ أَنْ نَفَخَ اللهُ الرُّوحَ في آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، مَنَحَهُ اللهُ تَعَالَىٰ فَضْلًا آخَرَ وتَكْرِيمًا عَظِيمًا، أَلَا وهُوَ تَعْلِيمُ الأَسْمَاءِ كُلِّهَا. قَالَ تَعَالَىٰ: "وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (البقرة: ٣١).
اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ في تَحْدِيدِ المَقْصُودِ بِـ "الأَسْمَاءِ كُلِّهَا"، فَقِيلَ إِنَّهَا أَسْمَاءُ المَلَائِكَةِ، وقِيلَ أَسْمَاءُ الذَّوَاتِ والأَفْعَالِ، وقِيلَ أَسْمَاءُ كُلِّ شَيْءٍ سَيَخْلُقُهُ اللهُ إِلَىٰ يَوْمِ القِيَامَةِ، مِنَ الجَمَادَاتِ والنَّبَاتَاتِ والحَيَوَانَاتِ والأَشْخَاصِ والأَحْدَاثِ والصِّفَاتِ. والرَّاجِحُ أَنَّ المَقْصُودَ هُوَ الجِنْسُ، أَيْ أَسْمَاءُ الأَجْنَاسِ الَّتِي تَدُلُّ على مُسَمَّيَاتِهَا، فَعَلَّمَهُ اللهُ تَعَالَىٰ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وكَيْفِيَّةَ تَمْيِيزِهِ عَنْ غَيْرِهِ. وهَذَا العِلْمُ هُوَ الَّذِي مَيَّزَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ على المَلَائِكَةِ، وجَعَلَهُ أَهْلًا لِلْخِلَافَةِ في الأَرْضِ.
ثُمَّ عَرَضَ اللهُ تَعَالَىٰ هَذِهِ المُسَمَّيَاتِ على المَلَائِكَةِ، وامْتَحَنَهُمْ بِسُؤَالِهِمْ عَنْ أَسْمَائِهَا، فَقَالَ: "أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ". والمَقْصُودُ بِـ "إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" أَيْ في قَوْلِكُمْ أَنَّكُمْ أَصْلَحُ لِلْخِلَافَةِ في الأَرْضِ مِنْ هَذَا المَخْلُوقِ الجَدِيدِ. فَعَجَزَ المَلَائِكَةُ عَنِ الإِجَابَةِ، واعْتَرَفُوا بِعَجْزِهِمْ وقُصُورِ عِلْمِهِمْ أَمَامَ عِلْمِ اللهِ الوَاسِعِ، فَقَالُوا: "سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ" (البقرة: ٣٢).
ثُمَّ أَمَرَ اللهُ تَعَالَىٰ آدَمَ أَنْ يُخْبِرَهُمْ بِالأَسْمَاءِ، فَفَعَلَ ذٰلِكَ، مِمَّا أَظْهَرَ فَضْلَهُ وعِلْمَهُ، وأَثْبَتَ أَحَقِّيَّتَهُ بِالتَّكْرِيمِ. وهَذَا التَّعْلِيمُ الإِلٰهِيُّ لِآدَمَ لِلْأَسْمَاءِ يَدُلُّ على أَهَمِّيَّةِ العِلْمِ والمَعْرِفَةِ، وأَنَّهُ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ اللهُ بِهَا على الإِنْسَانِ.
أَمْرُ السُّجُودِ لِآدَمَ: تَكْرِيمٌ وإِظْهَارٌ لِلْفَضْلِ
بَعْدَ أَنْ ظَهَرَ فَضْلُ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وعِلْمُهُ، أَمَرَ اللهُ تَعَالَىٰ المَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لَهُ تَكْرِيمًا وتَشْرِيفًا، وإِظْهَارًا لِفَضْلِهِ ومَكَانَتِهِ. قَالَ تَعَالَىٰ: "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ" (البقرة: ٣٤).
هَذَا السُّجُودُ لَمْ يَكُنْ سُجُودَ عِبَادَةٍ لِآدَمَ، وإِنَّمَا كَانَ سُجُودَ تَحِيَّةٍ وتَكْرِيمٍ وطَاعَةٍ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَىٰ. فَقَدِ امْتَثَلَ المَلَائِكَةُ الكِرَامُ لِأَمْرِ رَبِّهِمْ وسَجَدُوا جَمِيعًا لِآدَمَ، إِقْرَارًا بِفَضْلِهِ واعْتِرَافًا بِمَكَانَتِهِ.
إِلَّا إِبْلِيسَ، الَّذِي كَانَ مِنَ الجِنِّ، ولَيْسَ مِنْ جِنْسِ المَلَائِكَةِ، ولَكِنَّهُ كَانَ يَعْبُدُ اللهَ مَعَهُمْ. أَبَىٰ واسْتَكْبَرَ عَنِ السُّجُودِ، مُعْتَرِضًا على أَمْرِ اللهِ، ومُتَحَجِّجًا بِخَلْقِهِ مِنَ النَّارِ وآدَمَ مِنَ الطِّينِ. قَالَ: "أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ" (الأعراف: ١٢). فَكَانَ هَذَا الاعْتِرَاضُ والكِبْرُ سَبَبًا في طَرْدِهِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ولَعْنَتِهِ إِلَىٰ يَوْمِ الدِّينِ، وتَحَوُّلِهِ مِنْ عَبْدٍ طَائِعٍ إِلَىٰ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ.
وهَذِهِ القِصَّةُ تَحْمِلُ في طَيَّاتِهَا تَحْذِيرًا مِنَ الكِبْرِ والعِصْيَانِ، وبَيَانًا لِعَاقِبَةِ التَّكَبُّرِ على أَوَامِرِ اللهِ. كَمَا أَنَّهَا تُبَيِّنُ مَكَانَةَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عِنْدَ اللهِ، وأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مُكَرَّمٌ ومُفَضَّلٌ.
خَلْقُ حَوَّاءَ وإِسْكَانُهُمَا الجَنَّةَ: بِدَايَةُ الحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ
بَعْدَ خَلْقِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ وتَكْرِيمِهِ، اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللهِ أَنْ يَخْلُقَ لَهُ زَوْجَةً وأَنِيسًا، لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا وتَكُونَ لَهُ سَنَدًا ومُعِينًا. فَخَلَقَ اللهُ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ الأَيْسَرِ وهُوَ نَائِمٌ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِن ضِلْعٍ، وإِنَّ أَعْوَجَ مَا في الضِّلْعِ أَعْلَاهُ، فَإِن ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وإِن تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا". وهَذَا الحَدِيثُ يُبَيِّنُ طَبِيعَةَ المَرْأَةِ وأَنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَىٰ مُعَامَلَةٍ خَاصَّةٍ ولُطْفٍ ورِعَايَةٍ.
قَالَ اللهُ تَعَالَىٰ: "وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ" (البقرة: ٣٥).
أَسْكَنَ اللهُ آدَمَ وحَوَّاءَ الجَنَّةَ، وهِيَ دَارُ النَّعِيمِ والخُلُودِ، وأَبَاحَ لَهُمَا أَنْ يَأْكُلَا مِنْ جَمِيعِ ثِمَارِهَا وأَنْ يَتَمَتَّعَا بِخَيْرَاتِهَا كَيْفَمَا شَاءَا، إِلَّا شَجَرَةً وَاحِدَةً نَهَاهُمَا عَنِ الاقْتِرَابِ مِنْهَا والأَكْلِ مِنْ ثَمَرِهَا، امْتِحَانًا لَهُمَا واخْتِبَارًا لِطَاعَتِهِمَا. ولَمْ يُبَيِّنِ اللهُ تَعَالَىٰ نَوْعَ هَذِهِ الشَّجَرَةِ، ولَا فَائِدَةَ مِنَ الخَوْضِ في تَحْدِيدِهَا، فَالْعِبْرَةُ في الامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللهِ واجْتِنَابِ نَهْيِهِ.
المَعْصِيَةُ والخُرُوجُ مِنَ الجَنَّةِ: الابْتِلَاءُ الأَوَّلُ
لَمْ يَسْتَمِرَّ المَقَامُ في الجَنَّةِ على حَالِهِ، فَقَدْ كَانَ لِإِبْلِيسَ اللَّعِينِ خُطَّةٌ لِإِغْوَاءِ آدَمَ وحَوَّاءَ وإِخْرَاجِهِمَا مِنَ النَّعِيمِ. فَوَسْوَسَ لَهُمَا، وزَيَّنَ لَهُمَا الأَكْلَ مِنَ الشَّجَرَةِ المُحَرَّمَةِ، وأَقْسَمَ لَهُمَا بِاللهِ إِنَّهُ لَهُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. قَالَ تَعَالَىٰ: "فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ" (الأعراف: ٢٠-٢١).
اسْتَغَلَّ إِبْلِيسُ ضَعْفَ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ وحُبَّ الخُلُودِ والمُلْكِ، فَصَدَّقَهُ آدَمُ وحَوَّاءُ وأَكَلَا مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاهُمَا اللهُ عَنْهَا. قَالَ تَعَالَىٰ: "فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ" (البقرة: ٣٦). فَبِسَبَبِ هَذِهِ المَعْصِيَةِ، نَزَلَتِ العُقُوبَةُ عَلَيْهِمَا، وزَالَ عَنْهُمَا النَّعِيمُ الَّذِي كَانَا فِيهِ، وانكَشَفَتْ عَوْرَاتُهُمَا، وشَعَرَا بِالنَّدَمِ والخَجَلِ.
شَعَرَا بِالنَّدَمِ الشَّدِيدِ على مَا فَعَلَا، وتَابَا إِلَىٰ اللهِ تَعَالَىٰ، وطَلَبَا المَغْفِرَةَ، فَقَالَا: "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (الأعراف: ٢٣). فَتَابَ اللهُ عَلَيْهِمَا، وهُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
الهُبُوطُ إِلَىٰ الأَرْضِ: بِدَايَةُ التَّعْمِيرِ والابْتِلَاءِ
بَعْدَ المَعْصِيَةِ والتَّوْبَةِ، أَمَرَ اللهُ تَعَالَىٰ آدَمَ وحَوَّاءَ بِالهُبُوطِ إِلَىٰ الأَرْضِ، لِتَكُونَ هِيَ دَارُ الابْتِلَاءِ والاخْتِبَارِ، ومَحَلُّ العَمَلِ والجَزَاءِ. قَالَ اللهُ تَعَالَىٰ: "قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا" (البقرة: ٣٨). وشَمَلَ الأَمْرُ إِبْلِيسَ أَيْضًا، لِيَكُونَ العَدُوَّ الأَزَلِيَّ لِلْإِنْسَانِ.
بَدَأَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ حَيَاتَهُ في الأَرْضِ مَعَ زَوْجَتِهِ حَوَّاءَ وأَوْلَادِهِمَا، حَيْثُ بَدَأَ تَعْمِيرُ الأَرْضِ بِالزَّرْعِ والحَرْثِ والبِنَاءِ، وتَعْلِيمُ أَوْلَادِهِمَا الخَيْرَ والهَدَىٰ. وكَانَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ نَبِيًّا مُكَلَّمًا، يُوحَىٰ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، ويُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَ اللهِ.
وَفَاةُ آدَمَ: نِهَايَةُ رِحْلَةٍ وبِدَايَةٌ أُخْرَىٰ
عَاشَ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ عُمْرًا طَوِيلًا في الأَرْضِ، قِيلَ إِنَّهُ بَلَغَ أَلْفَ سَنَةٍ. وقَبْلَ وَفَاتِهِ، أَوْصَىٰ ابْنَهُ شِيثًا بِالحِفَاظِ على عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وعَلَى المَنْهَجِ القَوِيمِ. وبَعْدَ وَفَاتِهِ، دَفَنَهُ بَنُوهُ وكَرَّمُوهُ.
وهَكَذَا انْتَهَتْ رِحْلَةُ أَبِي البَشَرِيَّةِ في هَذِهِ الدُّنْيَا، ولَكِنَّ قِصَّتَهُ تَظَلُّ خَالِدَةً، تَحْمِلُ في طَيَّاتِهَا دُرُوسًا وعِبَرًا لِلْأَجْيَالِ القَادِمَةِ.