1. مَلِكٌ مِنْ أَعْظَمِ مُلُوكِ الْأَرْضِ إِنْ
لَمْ يَكُنْ أَعْظَمَهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَنَبِيٌّ مِنْ وَلَدِ دَاوُودَ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلُقِّبَ بِصَاحِبِ مَمْلَكَةِ الْإِنْسِ
وَالْجَانِّ، لَمْ يَأْتِ الْأَرْضَ مَلِكٌ مِثْلَهُ. إِنَّهُ سُلَيْمَانُ بْنُ
دَاوُودَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
سُلَيْمَانُ الَّذِي كَانَ لَهُ مُلْكٌ عَظِيمٌ
لَمْ يُؤْتِهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَحَدًا مِنْ قَبْلِهِ، وَلَنْ يُعْطِيَهُ
أَحَدًا مِنْ بَعْدِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ وَرِثَ سُلَيْمَانُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ النُّبُوَّةَ مِنْ أَبِيهِ دَاوُودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَلَمْ يَرِثِ الْمَالَ. إِنَّمَا كَانَ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ،
فَسَأَلَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَائِلًا:
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ:
قَالَرَبِّاغْفِرْلِيوَهَبْلِيمُلْكًالَايَنْبَغِيلِأَحَدٍمِنْبَعْدِيإِنَّكَأَنْتَالْوَهَّابُقَالَ
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي
إِنَّكَ أَنْتَ
الْوَهَّابُقَالَرَبِّاغْفِرْلِيوَهَبْلِيمُلْكًالَايَنْبَغِيلِأَحَدٍمِنْبَعْدِيإِنَّكَأَنْتَالْوَهَّابُ
فَسَخَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِسُلَيْمَانَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلَّ شَيْءٍ، فَسَخَّرَ لَهُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ،
وَعَلَّمَهُ لُغَةَ الْوُحُوشِ وَمَنْطِقَ الطَّيْرِ. فَكَانَ مَلِكًا نَبِيًّا
جَابَ أَقْطَارَ الْأَرْضِ كُلَّهَا لِيَنْشُرَ الْعَدْلَ وَالْإِيمَانَ
وَالْأَمَانَ.
سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُودَ أَعْظَمُ
مُلُوكِ الْأَرْضِ
وَرِثَ سَيِّدُنَا سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ الْحِكْمَةَ مِنْ وَالِدِهِ سَيِّدِنَا دَاوُودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ،
فَعَلَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْطِقَ الطَّيْرِ، وَسَخَّرَ لَهُ الْجِنَّ،
فَكَانُوا تَحْتَ أَمْرِهِ يَصْنَعُونَ لَهُ الْمَحَارِيبَ وَالتَّمَاثِيلَ
وَالْقُدُورَ الْعَظِيمَةَ الَّتِي لَا يُمْكِنُ تَحْرِيكُهَا مِنْ ضَخَامَتِهَا
وَحَجْمِهَا. وَكَانَ الْجِنُّ يَغُوصُونَ لَهُ فِي أَعْمَاقِ الْبِحَارِ
وَيَسْتَخْرِجُونَ اللُّؤْلُؤَ وَالْمَرْجَانَ. وَسَخَّرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الرِّيحَ فَكَانَتْ تَجْرِي بِأَمْرِهِ حَيْثُ
يَشَاءُ، فَاسْتَخْدَمَهَا فِي الْحَرْبِ، فَكَانَ لَدَيْهِ بِسَاطٌ خَشَبِيٌّ
ضَخْمٌ يَأْمُرُ الْجَيْشَ بِأَنْ يَرْكَبَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَأْمُرُ الرِّيحَ
فَتَرْفَعُهُ وَتَنْقُلُهُمْ إِلَى الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ بِسُرْعَةٍ خَارِقَةٍ.
وَمِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى
سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْضًا: إِسَالَةُ النُّحَاسِ لَهُ، كَمَا
أَنْعَمَ عَلَى وَالِدِهِ دَاوُودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ أَلَانَ لَهُ
الْحَدِيدَ وَعَلَّمَهُ كَيْفَ يَسْهَرُهُ. وَقَدِ اسْتَفَادَ سُلَيْمَانُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ فَائِدَةً عَظِيمَةً مِنَ النُّحَاسِ الْمُذَابِ فِي
الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ. وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَيْشٌ كَبِيرٌ
مُكَوَّنٌ مِنَ الْبَشَرِ وَالْجِنِّ وَالطَّيْرِ وَالْحَيَوَانَاتِ، وَكَانَ
يَعْرِفُ لُغَتَهَا.
وَكَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُحِبُّ
الْخَيْلَ كَثِيرًا، خَاصَّةً مَا يُسَمَّى بِالصَّافِنَاتِ، وَهِيَ مِنْ أَجْوَدِ
أَنْوَاعِ الْخُيُولِ وَأَسْرَعِهَا. وَفِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ بَدَأَ
اسْتِعْرَاضُ هَذِهِ الْخُيُولِ أَمَامَ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَصْرًا،
فَشَغَلَتْهُ الْخُيُولُ عَنْ وِرْدِهِ الْيَوْمِيِّ فِي ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى
حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ. فَانْتَبَهَ سُلَيْمَانُ وَأَنَّبَ نَفْسَهُ لِأَنَّ
حُبَّهُ لِهَذِهِ الْخُيُولِ شَغَلَهُ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَأَمَرَ
بِإِرْجَاعِ الْخُيُولِ، وَقِيلَ إِنَّهُ أَخَذَ السَّيْفَ وَبَدَأَ يَضْرِبُهَا
عَلَى رِقَابِهَا وَأَرْجُلِهَا حَتَّى لَا يَنْشَغِلَ بِهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ،
وَقِيلَ إِنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ عَلَيْهَا وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ،
فَيَمْسَحُهَا لِيَرَى السَّقِيمَ مِنْهَا مِنَ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ
يُعِدُّهَا لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
مَرَضُ سُلَيْمَانَ وَامْتِحَانُهُ
وَقَدِ ابْتُلِيَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ بِمَرَضٍ شَدِيدٍ حَارَ فِيهِ أَطِبَّاءُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ،
وَأَحْضَرَتْ لَهُ الطُّيُورُ أَعْشَابًا طِبِّيَّةً مِنْ أَطْرَافِ الْأَرْضِ
فَلَمْ يُشْفَ. وَكُلَّ يَوْمٍ كَانَ الْمَرَضُ يَزْدَادُ عَلَيْهِ حَتَّى
أَصْبَحَ سُلَيْمَانُ إِذَا جَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ كَأَنَّهُ جَسَدٌ بِلَا
رُوحٍ، مِنْ شِدَّةِ الْإِعْيَاءِ وَالْمَرَضِ. وَاسْتَمَرَّ هَذَا الْمَرَضُ
فَتْرَةً، كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهَا لَا يَتَوَقَّفُ عَنْ
ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَطَلَبِ الشِّفَاءِ مِنْهُ وَاسْتِغْفَارِهِ.
فَلَمَّا امْتَحَنَ اللَّهُ تَعَالَى عَبْدَهُ
سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَادَتْ إِلَيْهِ صِحَّتُهُ بِأَمْرِ اللَّهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ازْدَادَ يَقِينًا بِأَنَّ كُلَّ مَجْدِهِ وَكُلَّ مُلْكِهِ
وَكُلَّ عَظَمَتِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَحْمِلَ إِلَيْهِ الشِّفَاءَ إِلَّا إِذَا
أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَكَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
حَكِيمًا عَلِيمًا. وَقَدْ ذَكَرَ لَنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ
الْكَرِيمِ مَوَاقِفَ عَدِيدَةً تَتَجَلَّى فِيهَا حِكْمَةُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ الَّتِي آتَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَمَدَى مَقْدِرَتِهِ الْفَائِقَةِ
عَلَى اسْتِنْتَاجِ الْحُكْمِ الصَّحِيحِ فِي الْقَضَايَا الْمَعْرُوضَةِ عَلَيْهِ.
قِصَّةُ سُلَيْمَانَ مَعَ
الْمَرْأَتَيْنِ
مِنْ تِلْكَ الْقَصَصِ مَا حَدَثَ فِي زَمَانِ
دَاوُودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،
عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا،
جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا:
إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ أَنْتِ، وَقَالَتِ الْأُخْرَى: بَلِ ابْنُكِ أَنْتِ.
فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُودَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى،
فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُودَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ
فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا.
فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا يَرْحَمُكَ اللَّهُ، هُوَ ابْنُهَا. فَقَضَى بِهِ
لِلصُّغْرَى."
فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى حِكْمَةِ سُلَيْمَانَ وَحُسْنِ فِطْنَتِهِ.
قِصَّةُ سُلَيْمَانَ مَعَ
النَّمْلَةِ
وَلِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قِصَّةٌ
عَجِيبَةٌ مَعَ نَمْلَةٍ، فَفِي يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ كَانَ سُلَيْمَانُ
سَائِرًا بِجَيْشِهِ، فَمَرَّ بِوَادِي النَّمْلِ، فَسَمِعَ نَمْلَةً تَقُولُ
لِبَاقِي أَصْحَابِهَا -آمِرَةً إِيَّاهُمْ- أَنْ يَدْخُلُوا مَسَاكِنَهُمْ
خَوْفًا مِنْ أَنْ يَحْطِمَهُمْ جَيْشُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُمْ
لَا يَشْعُرُونَ. فَلَمَّا سَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَذَا
الْكَلاَمَ ضَحِكَ مِنْ قَوْلِ هَذِهِ النَّمْلَةِ، وَكَانَ يَعْلَمُ مَنْطِقَ
جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ وَاللُّغَةَ الَّتِي يَتَكَلَّمُونَ بِهَا، فَشَكَرَ
اللَّهَ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَعْطَاهُ
إِيَّاهَا.
قِصَّةُ سُلَيْمَانَ مَعَ بِلْقِيسَ
مَلِكَةِ سَبَإٍ
لَعَلَّ أَشْهَرَ قِصَّةٍ عَنْ سُلَيْمَانَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ هِيَ قِصَّتُهُ مَعَ بِلْقِيسَ مَلِكَةِ سَبَإٍ. فَفِي يَوْمٍ
مِنَ الْأَيَّامِ أَصْدَرَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمْرَهُ إِلَى
جَيْشِهِ بِأَنْ يَسْتَعِدُّ، فَخَرَجَ يَتَفَقَّدُ الْجَيْشَ وَيَسْتَعْرِضُهُ،
فَاكْتَشَفَ غِيَابَ الْهُدْهُدِ وَتَخَلُّفَهُ عَنِ الْوُقُوفِ مَعَ الْجَيْشِ.
فَغَضِبَ سُلَيْمَانُ وَقَرَّرَ أَنْ يُعَذِّبَهُ أَوْ يَقْتُلَهُ إِلَّا أَنْ
يَكُونَ لَهُ عُذْرٌ قَوِيٌّ مَنَعَهُ مِنَ الْقُدُومِ.
فَجَاءَ الْهُدْهُدُ وَوَقَفَ عَلَى مَسَافَةٍ
لَا تَبْعُدُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَ -بِلَا إِحْسَاسٍ
بِالذُّلِّ أَوِ الْمَهَانَةِ-:
"أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ، وَجِئْتُكَ
مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ."
فَأَخْبَرَهُ الْهُدْهُدُ أَنَّهُ وَجَدَ
مَلِكَةَ سَبَإٍ (بِلْقِيسَ) وَقَدْ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ
عَظِيمٌ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ
اللَّهِ. فَتَعَجَّبَ سُلَيْمَانُ مِنْ كَلَامِ الْهُدْهُدِ؛ فَإِنَّهُ لَمْ
يَكُنْ شَائِعًا أَنْ تَحْكُمَ امْرَأَةٌ بِلَادًا. وَتَعَجَّبَ كَذَلِكَ مِنْ
قَوْمٍ عِنْدَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ وَيَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ. فَلَمْ يُصَدِّقِ
الْهُدْهُدَ وَلَمْ يُكَذِّبْهُ عَلَى الْفَوْرِ، بَلْ قَالَ لَهُ:
"سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ
الْكَاذِبِينَ."
ثُمَّ كَتَبَ سُلَيْمَانُ كِتَابًا وَأَعْطَاهُ
لِلْهُدْهُدِ، وَقَالَ لَهُ:
"اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ
ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ."
فَأَلْقَى الْهُدْهُدُ الْكِتَابَ عَلَيْهِمْ،
وَوَقَفَ فِي مَكَانٍ بَعِيدٍ حَيْثُ يَسْتَطِيعُ سَمَاعَ رَدِّهِمْ عَلَى
الْكِتَابِ. فَقَرَأَتْ الْمَلِكَةُ (بِلْقِيسُ) الرِّسَالَةَ، فَسُرْعَانَ مَا
أَرْسَلَتْ إِلَى الْأُمَرَاءِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْأَكَابِرِ، حَتَّى
تَسْتَشِيرَهُمْ فِي الْأَمْرِ. فَقَالَتْ لَهُمْ:
"يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ، إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ
كِتَابٌ كَرِيمٌ. إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ، وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ."
فَطَرَحَتِ الْمَلِكَةُ عَلَى رُؤَسَاءِ
قَوْمِهَا الرِّسَالَةَ، وَكَانَتْ تُشَاوِرُهُمْ فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ.
فَقَالَتْ:
"يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ، أَفْتُونِي فِي أَمْرِي،
مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ."
فَكَانَ رَدُّ الْمَلَإِ وَرُؤَسَاءِ قَوْمِهَا
أَنَّ قَالُوا: نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ. وَيَبْدُو أَنَّ
الْمَلِكَةَ كَانَتْ أَكْثَرَ حِكْمَةً مِنْهُمْ، فَإِنَّ رِسَالَةَ سُلَيْمَانَ
أَثَارَتْ تَفْكِيرَهَا أَكْثَرَ مِمَّا اسْتَنْفَرَتْهَا لِلْحَرْبِ. فَفَكَّرَتْ
أَنْ تُرْسِلَ إِلَيْهِ هَدِيَّةً تُهَادِنُهُ بِهَا وَتَشْتَرِي السَّلَامَ،
وَفِي الْوَقْتِ نَفْسِهِ تَسْتَطِيعُ رُسُلُهَا الَّذِينَ يَحْمِلُونَ
الْهَدِيَّةَ دُخُولَ مَمْلَكَتِهِ، فَيَكُونُونَ عُيُونًا يَرْجِعُونَ
بِأَخْبَارِ قَوْمِهِ وَجَيْشِهِ.
فَلَمَّا وَصَلَتِ الْهَدَايَا إِلَى سُلَيْمَانَ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَهِمَ حَالَةَ الْمَلِكَةِ وَأَنَّهَا أَرْسَلَتْ
رِجَالَهَا لِيَسْتَكْشِفُوا مَدَى قُوَّتِهِ. فَنَادَى فِي الْمَمْلَكَةِ
كُلِّهَا بِأَنْ يَحْتَشِدَ الْجَيْشُ. وَدَخَلَ رُسُلُ بِلْقِيسَ وَسَطَ جَيْشٍ
كَثِيفٍ مُدَجَّجٍ بِالسِّلَاحِ، فَدُهِشُوا مِنْ عَظَمَةِ مُلْكِ سُلَيْمَانَ،
وَأَدْرَكُوا أَنَّهُمْ أَمَامَ جَيْشٍ لَا يُقَاوَمُ. ثُمَّ قَدَّمُوا
لِسُلَيْمَانَ هَدِيَّةَ الْمَلِكَةِ عَلَى اسْتِحْيَاءٍ. فَنَظَرَ سُلَيْمَانُ
إِلَى هَدِيَّتِهَا وَأَعْرَضَ عَنْهَا قَائِلًا:
"أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ؟ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ
خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ، بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ. ارْجِعْ
إِلَيْهِمْ، فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا،
وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ."
فَرَجَعَ رُسُلُ بِلْقِيسَ إِلَى سَبَإٍ،
وَأَخْبَرُوا الْمَلِكَةَ بِقُوَّةِ سُلَيْمَانَ، وَأَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِصَدِّ
جَيْشِهِ، وَأَنَّ الْبِلَادَ فِي خَطَرٍ. فَجَهَّزَتِ الْمَلِكَةُ نَفْسَهَا،
وَبَدَأَتْ رِحْلَتَهَا نَحْوَ مَمْلَكَةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
جَلَسَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي
مَجْلِسِ الْمُلْكِ، وَاصْطَفَّ وَزَرَاؤُهُ وَجُنْدُهُ وَعُلَمَاؤُهُ. كَانَ
يُفَكِّرُ فِي بِلْقِيسَ، وَيَعْرِفُ أَنَّهَا فِي الطَّرِيقِ إِلَيْهِ تَسُوقُهَا
الرَّهْبَةُ أَكْثَرَ مِنَ الْإِقْنَاعِ. فَقَرَّرَ سُلَيْمَانُ أَنْ يُبْهِرَهَا
بِقُوَّتِهِ وَيَدْفَعَهَا ذَلِكَ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ. فَسَأَلَ
مَنْ حَوْلَهُ إِنْ كَانَ بِإِمْكَانِ أَحَدٍ أَنْ يَحْضُرَ لَهُ عَرْشَ بِلْقِيسَ
قَبْلَ أَنْ تَصِلَ. فَقَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ:
"أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ
مَقَامِكَ هَذَا."
فَنَظَرَ سُلَيْمَانُ وَقَالَ: مَنْ يَأْتِي بِهِ
أَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ (قِيلَ إِنَّهُ آسِفُ بْنُ
بَرْخِيَا):
"أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ
إِلَيْكَ طَرْفُكَ."
فَنَظَرَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَوَجَدَ الْعَرْشَ عِنْدَهُ مُسْتَقِرًّا، فَقَالَ:
"هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي."
فَتَأَمَّلَ سُلَيْمَانُ عَرْشَ الْمَلِكَةِ
طَوِيلًا، ثُمَّ أَمَرَ بِإِجْرَاءِ بَعْضِ التَّعْدِيلَاتِ عَلَيْهِ لِيَمْتَحِنَ
بِلْقِيسَ عِنْدَمَا تَصِلُ، وَيَرَى: هَلْ تَهْتَدِي إِلَى عَرْشِهَا، أَمْ
تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ؟
ثُمَّ أَمَرَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
بِبِنَاءِ قَصْرٍ يَسْتَقْبِلُ فِيهِ بِلْقِيسَ، وَأَنْ يَكُونَ مُعْظَمُهُ فَوْقَ
مِيَاهِ الْبَحْرِ، وَأَمَرَ بِأَنْ تُصْنَعَ أَرْضِيَّةُ الْقَصْرِ مِنْ زُجَاجٍ
شَدِيدِ الصَّلَابَةِ وَشَدِيدِ الشَّفَافِيَّةِ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ.
فَلَمَّا أَصْطَحَبَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ بِلْقِيسَ إِلَى الْعَرْشِ، نَظَرَتْ إِلَيْهِ فَرَأَتْهُ كَعَرْشِهَا
تَمَامًا، فَإِنْ كَانَ عَرْشَهَا فَكَيْفَ سَبَقَهَا بِالْمَجِيءِ؟ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ عَرْشَهَا، فَكَيْفَ أُمْكِنَ تَقْلِيدُهُ بِهَذِهِ الدِّقَّةِ؟ فَقَالَ
لَهَا سُلَيْمَانُ:
"أَهَكَذَا عَرْشُكِ؟"
فَقَالَتْ بِلْقِيسُ بَعْدَ حَيْرَةٍ قَصِيرَةٍ:
"كَأَنَّهُ هُوَ."
ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَانُ لِبِلْقِيسَ:
"ادْخُلِي الصَّرْحَ."
وَكَانَ بِنَاءً فِي غَايَةِ الْعَجَبِ وَالْإِبْتِكَارِ، وَكَانَ
مُقَدِّمُهُ مِنْ زُجَاجٍ يَشِفُّ عَنْ مِيَاهٍ تَسْبَحُ فِيهَا الْحِيتَانُ.
فَلَمَّا وَضَعَتْ بِلْقِيسُ رِجْلَهَا عَلَى الزُّجَاجِ، رَفَعَتْ ثَوْبَهَا
خَشْيَةَ الْبَلَلِ. فَقَالَ لَهَا سُلَيْمَانُ:
"لَا تَخَافِي الْبَلَلَ، فَهَذَا صَرْحٌ أَمْلَسُ
مِنْ زُجَاجٍ."
هُنَاكَ أَعْلَنَتْ بِلْقِيسُ إِسْلَامَهَا
بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَتْ عَظَمَةَ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَقُوَّةَ رِسَالَتِهِ،
فَقَالَتْ:
"رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَأَسْلَمْتُ
مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ."
فَأَسْلَمَتْ بِلْقِيسُ، وَدَخَلَتْ فِي دِينِ
سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ إِنَّ سُلَيْمَانَ تَزَوَّجَهَا،
وَقِيلَ إِنَّهُ زَوَّجَهَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الشَّرَفِ فِي قَوْمِهَا يُسَمَّى
"ذَا تَبَّعٍ مَلِكَ هَمْدَانَ"، وَأَعَادَهُمَا إِلَى الْيَمَنِ،
وَجَعَلَهُ مَلِكًا عَلَيْهَا، وَكَـلَّفَ أَمِيرَ جِنِّيِّ الْيَمَنِ أَنْ
يَأْتَمِرَ بِأَمْرِهِ، فَسَاعَدَهُ وَصَنَعَ لَهُ الصَّنَائِعَ فِي الْيَمَنِ،
وَبَقِيَ كَذَلِكَ حَتَّى تُوُفِّيَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَلَا
يَثْبُتُ عِنْدَنَا صِحَّةُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى وَجْهِ الْيَقِينِ.
بِنَاءُ سُلَيْمَانَ لِلْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى
وَقَدْ قَامَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
بِإِعَادَةِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَنَاهُ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ مِنْ قَبْلُ، وَبَنَى بِجَانِبِهِ هَيْكَلًا عَظِيمًا كَانَ مُقَدَّسًا
عِنْدَ الْيَهُودِ، وَمَا زَالُوا يَبْحَثُونَ عَنْهُ إِلَى الْيَوْمِ. وَقَدْ
وَرَدَ فِي الْهَدْيِ النَّبَوِيِّ الْكَرِيمِ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
ثَلَاثًا، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى اثْنَتَيْنِ، وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ
تَكُونَ لَنَا الثَّالِثَةُ: سَأَلَهُ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأَعْطَاهُ
إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأَعْطَاهُ
إِيَّاهُ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ لَا يُرِيدُ
إِلَّا الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، إِلَّا خَرَجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ
كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ تَكُونَ هَذِهِ لَنَا.
عَاشَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَسَطَ
مَجْدٍ دَانَتْ لَهُ فِيهِ الْأَرْضُ، ثُمَّ قَضَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ
بِالْمَوْتِ، فَمَاتَ. وَكَمَا كَانَتْ حَيَاةُ سُلَيْمَانَ قِمَّةً فِي الْمَجْدِ
الْمُمْتَلِئِ بِالْعَجَائِبِ وَالْخَوَارِقِ، كَانَ مَوْتُهُ آيَةً مِنْ آيَاتِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُمْتَلِئَةً بِالْعَجَائِبِ وَالْخَوَارِقِ؛ فَقَدَّرَ
اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مَوْتُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِشَكْلٍ
يَنْسِفُ فِكْرَةَ مَعْرِفَةِ الْجِنِّ لِلْغَيْبِ، تِلْكَ الْفِكْرَةَ الَّتِي
فُتِنَ النَّاسُ بِهَا. فَكَانَ الْجِنُّ يَعْمَلُونَ لِسُلَيْمَانَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَا دَامَ حَيًّا، فَلَمَّا مَاتَ
سُلَيْمَانُ انْكَسَرَ تَسْخِيرُهُمْ لَهُ، وَأُعْفُوا مِنْ تَبِعَةِ الْعَمَلِ
مَعَهُ. وَلَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، مَا لَبِثُوا فِي هَذَا
الْعَذَابِ الْمُهِينِ.
وَقَدْ كَانَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
مُتَّكِئًا عَلَى عَصَاهُ يُرَاقِبُ الْجِنَّ وَهُمْ يَعْمَلُونَ، فَمَاتَ وَهُوَ
عَلَى هَذَا الْوَضْعِ، وَرَآهُ الْجِنُّ فَظَنُّوا أَنَّهُ يُصَلِّي
فَاسْتَمَرُّوا فِي عَمَلِهِمْ. وَمَرَّتْ أَيَّامٌ طَوِيلَةٌ، ثُمَّ جَاءَتْ
دَابَّةُ الْأَرْضِ -قِيلَ إِنَّهَا نَمْلَةٌ- تَأْكُلُ الْخَشَبَ، فَأَكَلَتْ
جُزْءًا مِنْ عَصَا سُلَيْمَانَ. وَاسْتَمَرَّتْ تَأْكُلُ الْجُزْءَ الْمُلاَمِسَ
لِلْأَرْضِ أَيَّامًا، حَتَّى اخْتَلَّ تَوَازُنُ الْعَصَا فَسَقَطَتْ، فَاخْتَلَّ
بَعْدَهَا تَوَازُنُ جِسْمِ سُلَيْمَانَ الْعَظِيمِ، فَهَوَى إِلَى الْأَرْضِ.
فَهَرَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ، فَأَدْرَكُوا أَنَّهُ مَاتَ مُنْذُ زَمَنٍ،
فَتَبَيَّنَ لِلْجِنِّ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ، وَعَرَفَ النَّاسُ
هَذِهِ الْحَقِيقَةَ أَيْضًا.
وَبِهَذِهِ النِّهَايَةِ الْعَجِيبَةِ، خَتَمَ
اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيَاةَ هَذَا النَّبِيِّ الْمَلِكِ الْكَرِيمِ
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
هَذَا وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَعْلَى
وَأَعْلَمُ. وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ،
وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
دُمْتُمْ فِي رِعَايَةِ اللَّهِ وَأَمْنِهِ، وَالسَّلَامُ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.